يشهد إقليم بلوشستان الباكستاني منذ مطلع العام الجاري احتقانا لم يشهده منذ نجاح نظام الرئيس الأسبق ضياء الحق في سحق حركة تمرد مسلحة في بداية الثمانينيات. ولو أن الأمر اقتصر على التوتر السياسي لربما كان المشهد غير ملفت للنظر، خاصة وان البلاد كلها تعيش في أجواء سياسية غير سوية بسبب الصراع الدائر منذ عام 1999 حول الديمقراطية ما بين نظام الرئيس برويز مشرف وخصومه من الأحزاب والقيادات المدنية الكبرى. ما أثار الانتباه هو أن الأوضاع في الإقليم بدأت منذ الشهر الماضي تأخذ منعطفا خطيرا بحدوث سلسلة من الاعتداءات المسلحة وأعمال التفجير ضد مواقع وأهداف حيوية مثل وسائل النقل العام وخطوط الاتصالات ومحطات الطاقة ومعسكرات الجيش والأمن، وإعلان جماعة غير معروفة تطلق على نفسها اسم "جيش تحرير بلوشستان" مسؤوليتها عن تلك الحوادث مع توعدها بالمزيد. ولعل ما يؤكد هول هذه الضربات أنها تسببت في انقطاع التيار الكهربائي عن ثلث الإقليم بما في ذلك عاصمته كويتا، وتوقف خطوط إمدادات الغاز وتعثر حركة السكك الحديدية ما بين كويتا وزاهدان عاصمة بلوشستان الإيرانية.
وجاء رد الحكومة المركزية في إسلام آباد بإرسال المزيد من التعزيزات العسكرية إلى بلوشستان مع تهديدات من الرئيس مشرف بأنه سوف يتصدى بطريقة تجعل البلوش ينسون جذورهم، وتلميحات أخرى بإمكانية فرض الحكم العسكري المباشر على الإقليم أو إجراء تغييرات ديموغرافية ينقل بمقتضاها سكان الإقليم الأصليون بعيدا عن نطاق المواقع والبنى والمشروعات الاستراتيجية، ليصب الزيت على النار وينقل بلوشستان إلى واجهة الأحداث كبؤرة توتر جديدة في جنوب آسيا.
ومن يقرأ صحف باكستان اليومية هذه الأيام يجدها مليئة بمانشيتات ومقالات تتحدث عن تدهور الأوضاع هناك وبلوغها حدا يهدد وحدة البلاد، أو تنتقد أسلوب الحكومة في معالجة الأزمة وتتهمها بالتصعيد المفضي إلى عواقب وخيمة. ومما كتب في هذا السياق أن الباكستانيين ملوا من لجوء الحكم إلى الإشارة إلى الأصابع الأجنبية كلما حدثت أزمة، وأنهم ينتظرون إقراراً منه بارتكاب الأخطاء ووعدا بتصحيحها، إن لم يكن من أجل بلوشستان فمن أجل ديمومة ووحدة الكيان الباكستاني.
والحقيقة أنه لا يمكن انتقاد حكومة الرئيس مشرف على موقفها. فهي ملزمة بالتصدي لأعمال العنف والتخريب والمحافظة على هيبة الدولة مثلما تفعل أية حكومة في مثل هذه الظروف. إلا أن ما يؤخذ عليها هو لجوؤها إلى القوة والتشدد المفرط وحدهما دون محاولة نزع فتيل الأزمة بإزالة الأسباب التي أدت إلى ظهورها وتفاقمها. وهذا مأخذ لا يجمع عليه البلوش وحدهم وإنما أيضا قطاعات واسعة من الشعب الباكستاني وأحزابه وتنظيماته المدنية. فلئن كانت أحزاب المعارضة لها أسبابها الخاصة للغضب والتنديد بسياسات الرئيس مشرف في بلوشستان واستغلال ما يجري هناك لتسجيل نقطة ضد النظام والمؤسسة العسكرية التي يتهمونها بالغطرسة والفساد، فإن الرأي العام الباكستاني بحسب ما تبينه الصحافة اليومية غاضب لأنه يخاف من تكرار السيناريوهات التي أفضت إلى انسلاخ الجناح الشرقي للكيان الباكستاني. وهو محق في مخاوفه هذه، لا سيما وأن هناك تشابها بين ما يجري اليوم وما جرى قبل 35 عاما في باكستان الشرقية (بنغلاديش حاليا)، سواء لجهة وجود العسكر في الحكم، أو استخدام القوة والبطش في علاج الأزمة، أو وجود مناخ إقليمي ودولي ملتهب، أو لجهة أسباب التمرد.
ومن الواضح أن صبر البلوش قد نفد مما يعتبرونه تهميشا لهم وتمييزا ضدهم من قبل الأنظمة الباكستانية المتعاقبة واستغلالا لثروات إقليمهم لصالح الآخرين. وقد عبر السيناتور المعارض صنعة الله بلوشي عن هذا كله في بيان تفصيلي قدمه مؤخرا إلى مجلس الشيوخ الباكستاني تحت عنوان "عملية اغتصاب بلوشستان سياسيا واقتصاديا ونفسيا". وفي السياق نفسه كتب آخرون تحليلات تضمت معلومات مثل أن بلوشستان هي مصدر نحو 40 بالمئة من إجمالي ثروة باكستان من الغاز لكنها لا تستفيد إلا من 2 بالمائة منها، بل حتى هذه النسبة المتواضعة لم يبدأ الاستفادة منها إلا منذ عام 1986 على الرغم من اكتشاف الغاز في الإقليم في عام 1952. ومن الحقائق الأخرى التي يعزى إليها أسباب غضب البلوش وامتعاضهم أن منسوبي الجيش والأمن وحرس الحدود في الإقليم هم بالكامل من غير العنصر البلوشي.
وهكذا يمكن اختزال أسباب الأزمة الراهنة في بلوشستان في جملة واحدة هي شعور مواطنيها بالحرمان الطويل والتهميش الذي وصل – طبقا للقوميين البلوش – إلى ما يشبه علاقة البيض بسكان استراليا الأصليين.
لكن لماذا انفجرت الأزمة الآن طالما أن شعور البلوش بالحرمان موضوع قديم وليس وليد اليوم؟ الإجابة ربما تكون في شروع إسلام آباد منذ عام 2001 في التدخل بصورة أقوى من كل الحقب السابقة في تقرير مستقبل الإقليم الإنمائي دون استشارة أبنائه أو اخذ مرئياتهم واشتراطاتهم في الاعتبار. من ذلك خطط باكستانية طموحة جارية على قدم وساق بمساعدة الصينيين لتحويل "جوادر" إلى ميناء عميق ومر